من نحن
في الوقت الذي تتصاعد فيه وتيرة سياسات الخصخصة والسوق الحرة بما تستتبعه من تقليص لدور الدولة، تتعرض الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للأفراد لخطر الاستبعاد من أولويات الدولة، و تتسع الفجوة كذلك بين حقيقة دور الدولة وأداء الالتزامات القانونية المنوطة بها كما هي منصوص عليها في العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
انطلاقاً من هذه الرؤية كانت هناك حاجة إلى إيجاد آلية لرصد تلك الالتزامات والتأكيد عليها في كل مناسبة ، ولما كانت الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية – بحسب طبيعتها – من الصعب قياسها، كانت هناك ضرورة لبلورة معيارية يمكن من خلالها الحكم على أداء أو عدم أداء الدولة لتلك الحقوق.
من هنا جاءت فكرة إنشاء ” مرصد الموازنة العامة وحقوق الإنسان ” الذي يعنى بتحليل الموازنة العامة للدولة من منظور حقوقي، وتوثيق الانتهاكات المتعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية توثيقاً مرئياً ليشكل منبراً للحوار حول القضايا العامة تتجلى من خلاله أصوات المهمشين.
فالموازنة العامة هى أكثر أدوات السياسة الاقتصادية الحكومية أهمية، حيث تعكس الأولويات الحكومية اقتصادياً واجتماعياً أكثر من أي وثيقة أخرى، إنها تترجم الالتزامات السياسية والأهداف في صورة قرارات تحكم أين ينبغي أن تنفق الأموال وكيف يجب أن تجمع؟، ولما كانت الدولة – كشخص قانوني – ليس لديها مالها الخاص الذي تملكه، وإنما الأموال هي حصيلة الضرائب والرسوم وإدارة الممتلكات العامة نيابة عن الأفراد، لذلك فإن من حق الأفراد أن يراقبوا سلوك الدولة في هذا الشأن، لذلك فإن العمل على الموازنة يستهدف التوجه إلى صانعي السياسات، كل من التنفيذيين والهيئات التشريعية، الإعلام، منظمات المجتمع المدني الأخرى، القطاع العريض من السكان، الباحثين والأكاديميين، من أجل بلورة وتعزيز فهم القضايا المتعلقة بالموازنة العامة، و إشراك الجميع في الجدل الدائر حول الموازنة، وخاصة أولئك المهمشين الذين يتأثرون مباشرة بالسياسات، ومما لا شك فيه أن صياغة الموازنة في لغة تقنية تساعد إلى حد كبير في تهميش قطاعات واسعة من السكان وعدم مشاركتهم في النقاش حول الدور الذي تلعبه الموارد العامة في حياتهم، واقتراح أفضل الوسائل للإنفاق وإنجاز الأهداف، لذا فإن “مرصد الموازنة العامة وحقوق الإنسان” يسعى إلى إنشاء خطاب حقوقي حول الموازنة العامة في لغة بسيطة يفهمها الجميع، كما يسعى من ناحية أخرى إلى ترسيخ مفهوم «الموازنة التشاركية» في السياق المحلى.
إن الموازنة التشاركية تسعى إلى إقحام المواطنين مباشرة في صنع السياسات والقرارات المؤثرة على حياتهم، وبلوغ العدالة الاجتماعية من خلال السياسات المحسنة وتخصيص الموارد، فالمشاركة محور أساسي في عملية إعداد الموازنة، حيث تتيح للجميع التعبير عن اهتماماتهم واحتياجاتهم، هذه المشاركة التي يمكن أن ينتج عنها المزيد من عدالة الإنفاق، بدلا من طريقة أخرى يتحكم فيها ذوي النفوذ الذين يحددون خططا تخدم مصالحهم من خلال التخفيضات الجمركية، إلغاء الدعم، والخصخصة.
ويعتقد القائمون على ” مرصد الموازنة العامة وحقوق الإنسان ” أن الموازنة يجب أن تكون محكومة بالمبادئ التالية:
• الشفافية
مما لاشك فيه أن الشفافية المالية تعد مؤشراً هاماً للحكم الرشيد، والمشاركة الحقيقية للمواطنين، كما أن الشفافية في نطاق القطاع العام تعزز المساءلة، وعند اجتماع كل من الشفافية والمساءلة فضلاً عن الفرص المتزايدة للنقاش العام، عندها يمكن أن تساهم جميعاً في تبنى سياسات أفضل.
إن مبدأ الشفافية عنصراً حاسماً في مرحلة إعداد الموازنة، فهي مطلب أولى للحوار العام، وإذا لم تكن معلومات الموازنة متاحة سيكون من الصعب مناقشتها وتقديم الاقتراحات بشأنها، وكذلك تمكن المشرع والمجتمع المدني من مساءلة الحكومة، ومبدأ الشفافية المالية أصبح معترفا به حتى من قبل صندوق النقد الدولي الذي أصدر في 1998 إعلان مبادئ حول قانون الممارسات الرشيدة في الشفافية المالية.
• المشاركة
وتعنى مشاركة الجميع في الحوار العام السابق على إعداد الموازنة بهدف تعيين منظور خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية للعام المالي من خلال قاعدة عريضة من السكان، وأصحاب المصالح، بل يجب أن تتاح لهم المشاركة الفعلية في عملية إعداد الموازنة وإبراز أولوياتهم في مواجهة أولويات الحكوميين وأصحاب رؤوس الأموال.
• المساءلة
إن الدولة – كما أسلفنا – ليست لها مالها الخاص الذي تملكه، وإنما تحصلت على هذه الأموال من جباية الضرائب من الأفراد ومختلف أوجه الأنشطة في المجتمع، وكذلك من خلال إدارة واستغلال الأموال العامة والثروات الطبيعية التي يشترك الجميع في ملكيتها، من هنا كانت الدولة مساءلة عن أوجه إنفاق تلك الأموال، وعن مدى تقدمها في إنجاز الحقوق وتعزيزها من خلال المخصصات ومشروعات الخطة والتنمية.
• العدالة، المساواة وعدم التمييز
يجب أن تؤكد الموازنة العامة في صورتها النهائية على مبدأ العدالة في توزيع ثمار الناتج القومي، بما يتضمنه ذلك من ضرورة إعادة توزيع تلك الثمار بهدف تلبية احتياجات المهمشين من السكان، وأولئك الأكثر عرضة لأثر السياسات الاقتصادية والخطط التنموية، بما قد تنطوي عليه من تهديد لاحتياجاتهم الأساسية في مجالات السكن والرعاية الصحية و التأمين الاجتماعي.
لقد شهدت البشرية حقبة طويلة من مختلف أشكال التمييز ضد المرأة واستغلالها على الرغم من مشاركتها الأساسية في الناتج، ويؤكد عدد يصعب إحصاؤة من الدراسات والتقارير على استحواذ الذكور على ثمار الناتج على نحو غير منصف مما أنتج ظاهرة تأنيث الفقر، من هنا فإن فريق المرصد سوف يولى عناية خاصة لبحوث ودراسات ” موازانات النوع ” سعياً إلى مقاربة معايير بلوغ المساواة.
إن طريقة إعداد الموازنة تلعب دوراً كبيراً في إعادة توزيع الدخل القومي، فالنفقات العامة – على سبيل المثال – يمكن أن تكون أداة لتحويل القوة الشرائية من أيدي البعض إلى الآخرين بما يؤثر على كل من الادخار والاستثمار، كذلك تهدف بعض صور الإنفاق إلى رفع مستوى الاستهلاك لدى بعض فئات المجتمع بهدف تحسين أحوالهم المعيشية بما يؤثر في نهاية المطاف على هياكل الاستهلاك.
إن تحليل الموازنة العامة يصلح أساساً قوياً للرد على ادعاءات الحكومة التي تتذرع بنقص الموارد للتنصل من التزاماتها تجاه إعمال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ومن أولئك المهمشين والأكثر عرضة من السكان، كما يمكن أن يكون أداة مفيدة لحشدهم عبر بناء قواعد من مختلف أصحاب المصالح وطوائف المستهلكين بهدف التأثير على مراكز صنع القرار من أجل الالتزام باحترام وحماية وأداء الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.